قدمت قناة «الجزيرة» أمس وثيقة
مسربة، قالت إنها تثبت تعاقد الحكومة الحالية مع شركة «جلوفر بارك جروب» الأمريكية
للعلاقات العامة، للترويج لما تسميه «انقلاباً».. وأود فى هذه السطور أن أشير لبعض
الخلفيات، التى ربما خفيت على «الجزيرة»، أو تم غض الطرف عنها، فى هذا الملف:
أولاً: عرفت مصر طريقها لشركات العلاقات العامة فى الولايات المتحدة عام 1989، فى
عهد رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقى، حين لم يكن مبارك ديكتاتوراً، ولم تكن هناك
مشكلة فى العلاقات المصرية الأمريكية، بل على العكس، كان ما سمى وقتها بالحوار
الاستراتيجى بين البلدين جارياً، وعقدت منه جلستان فى القاهرة، وهو ما مهد لمشاركة
مصر عسكرياً فى حرب الخليج عام 1991 بجانب الولايات المتحدة وتحالفها الغربى
الواسع.
عام 1989 إذن تعاقدت الحكومة المصرية مع شركة «جرايم بانرمان» الذى كان يعمل قبل
ذلك التاريخ بعامين فقط موظفاً فى لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ الأمريكى،
وكانت مصر والفلبين وحكومة السلطة الفلسطينية من أوائل زبائنه خلال سنواته الأولى
فى هذا البزنس! واستمر اعتماد مصر على «بانرمان» حتى عام 2007، وكانت تدفع له
سنوياً 750 ألف دولار، وحين أنهت الحكومة المصرية تعاقدها معه، وصف هذا التعاون
قائلاً: «لقد عملت سبعة عشر عاماً لمساعدة المصريين فى فهم تعقيدات واشنطن، وأنا لم
أتحدث بصوتهم مطلقاً، فالحكومة المصرية تتحدث بصورة مباشرة مع الإدارة الأمريكية،
لقد كنت أساعدهم فقط على عرض وجهات نظرهم».
ثانياً: حاول رجل الأعمال أحمد عز عام 2007 «الذى كانت ثروته قد تخطت 50 مليار جنيه
فى ذلك الوقت» تأسيس شركة للعلاقات العامة فى ولاية فيرجينيا بالولايات المتحدة،
للاستحواذ على هذا المقابل المادى الضخم «بمنطقه المعتاد فى الاحتكار».. لكنه فشل!.
ثالثاً: قبل الانتخابات البرلمانية عام 2010 وفى أعقاب تخفيض المساعدات الاقتصادية
الأمريكية 200 مليون دولار، لتصل إلى 215 مليون دولار فقط، تعاقدت مصر مع شركة «بى
إل إم جروب» للعلاقات العامة للترويج لصالحها فى الكونجرس، مقابل 4 ملايين دولار
سنوياً، أى أكثر من 300 ألف دولار شهرياً.. هذه الشركة يديرها أشخاص ذوو تأثير
سياسى كبير فى الولايات المتحدة، منهم تونى بودستا «العقل الإدارى الفذ»، وكل من
بوب ليفينجستون النائب السابق عن الحزب الجمهورى، وتونى مافيت النائب السابق عن
الحزب الديمقراطى، الخصمين السياسيين اللذيْن جمعهما البزنس!
نجحت هذه الشركة فى إقناع الكونجرس بعدم مناقشة تقرير النائب الجمهورى جون ماكين،
وزميله فى الكونجرس وقتها روس فينجولد، حول أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان فى
مصر.
رابعاً وهذا هو الأهم: نسيت قناة «الجزيرة» وهى تبث هذا الخبر أن تذكر لنا أن قطر
نفسها تعاقدت مع شركة علاقات عامة فى نيويورك قبل ثلاثة أعوام، هى «فنتون
كوميونيكيشنز»، وأن هذه الشركة تعاقدت معها أيضاً مبادرة «الفاخورة» الفلسطينية،
ومقرها الدوحة، لتغيير وجهة نظر الغرب من القضية الفلسطينية.. السلطة الوطنية
الفلسطينية كذلك تعاقدت مع شركة «بيل بوتنجر» للعلاقات العامة، لنفس الغرض.
الخلاصة أن اعتماد الدول على شركات العلاقات العامة فى الولايات المتحدة ليس بدعة،
ولا ينطوى بالضرورة على مصلحة تتناقض مع مصلحة الشعوب، بل قد يكون ضرورة لمواجهة
تأثير جماعات الضغط المعادية للعرب، كما أن مثل هذه الشركات تعمل لمن يدفع لها، ولا
مجال لتجاهل كفاءتها لمجرد أن لها عميلا آخر بينى وبينه خصومة.
البحرين وحدها تعاقدت عام 2011 مع عشر شركات وخبراء علاقات عامة على الأقل، منهم
«جو تريبى»، مدير الحملة الانتخابية السابق لعضو الحزب الديمقراطى خلال تنافسه على
ترشيح الحزب للانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2004، ووكالة «سانيتاس» الدولية،
التى يملك بعض أسهمها «كريستوفر هارفين» أحد مساعدى جورج بوش خلال رئاسته للولايات
المتحدة.
حكومة ما بعد الثورة فى ليبيا تعاقدت هى الأخرى مع شركة «إن هاربور» للعلاقات
العامة، فى مقابل أجر شهرى بلغ 15 ألف دولار، بموجب عقد وقعته معها السفارة الليبية
فى واشنطن.. ثم تعاقدت مع مجموعة «باتون بوجز» بعقد أكبر، رغم أن هذه المجموعة كانت
تتعاون مع القذافى، إلى جانب مجموعة «مونيتور»، مقابل عقد قيمته 250 ألف دولار
شهرياً، وهى قيمة تشبه ما تضمنته الوثيقة التى تنسبها «الجزيرة» للحكومة المصرية..
وأراد القذافى من هذا العقد أن تقنع المجموعتان عدداً من الأكاديميين الأمريكيين
بأهمية ليبيا، لتناول ذلك فى أبحاثهم بطريقة علمية.
يقول «رون توروسيان» الرئيس التنفيذى لوكالة «فايف دبليو بى آر» الرائدة فى مجال
العلاقات العامة بالولايات المتحدة، فى كتابه المهم «الذى أدعو «الجزيرة» لقراءته»
«للنشر الفورى: تشكيل عقول، وبناء علامات تجارية، وتحقيق نتائج مع لعبة العلاقات
العامة المتغيرة: «إن هذا المجال رغم أهميته فى الولايات المتحدة، محدود للغاية..
هناك حوالى 75 شركة علاقات عامة فقط، تستعين بخمسين خبيراً، بعضهم قرر تجميد تعاونه
مع المنظمات اليهودية وجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، ليتفرغ للتعاون مع عدد من
دول الخليج، وعلى رأسها قطر»! وفى مقال بعنوان «شركات العلاقات العامة تساعد فى بيع
الإرهاب والوحشية» يقول «توروسيان»: «سوف نلحظ عما قريب خطاباً أكثر إيجابية عن
المصالح العربية فى وسائل الإعلام الأمريكية، والسبب هو شركات العلاقات العامة»!
إذن لا جديد فى الخبر الذى صنعت منه الجزيرة ضجة بالأمس.. فهى كالعادة، وكما قال لى
مديرها الأول محمد جاسم العلى فى أبريل من عام 2000 بحضور صلاح نجم مدير غرفة
الأخبار فى ذلك الوقت: الجزيرة هى أفضل من يصطنع خبراً من لا شىء!
اليوم السابع
Navigate through the articles | |
المدرسة الجزائرية والمرتبة المائة عالمياً | تونس خضراء بلا ربيع.. |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|