في معظم أنحاء شمال
نيجيريا، ليست هناك حاجة إلى منبه من أجل الاستيقاظ للعمل؛ حيث يتولى تلك المهمة
الأطفال متسولي الصدقات الذين يسمع هتافاتهم الصاخبة يوميًا في ولايات: “كانو”
و”جيغاوا” شمال غرب البلاد وحتى “مايدوغوري” و”يوبي” شمال شرق البلاد.
ويطلق على الأطفال الذين يحملون الأوعية من أجل جمع الصدقات “الماجيري”، وهي كلمة
محلية محرفة من كلمة “المهاجرين” العربية، ويعود تاريخ استخدامها إلى القرن الثامن
عشر، عندما كان يهاجر الناس من مختلف أنحاء بلاد الهوسا (غرب أفريقيا) لتلقي العلم
في مراكز التعليم الإسلامي شمالي نيجيريا.
عمليا، يتشكل “الماجيري” في الأساس من الطلاب أو المتسولين، وبينما تختلف الآراء
حول نشأة ذلك النظام، ليس بوسع أحد أن يشكك في الأصل النبيل لهذه الفكرة.
ويعود أصل هذا النظام إلى القرن الحادي عشر قبل الغزو البريطاني لنيجيريا، عندما
كان يبعث الآباء أبناءهم إلى أماكن بعيدة أحيانًا لتلقي تعليمهم على يد علماء
مسلمين بارزين، مما ساهم بالتالي في ظهور العديد من علماء القرآن والحديث، وغيرها
من فروع العلم.
وآنذاك، كان يتعلم التلاميذ أن يكونوا بسطاء وأقوياء ومهذبين، لكن اليوم حسبما يقول
الكثيرون فقد أصبح هذا النظام لعنة، فضلا عن أنه خلق بيئة خصبة لنشر اتجاهات التطرف
والسلوك المعادي للمجتمع.
وبدورها، كرست الحكومات النيجيرية، وخصوصا الإدارة الحالية للرئيس جودلاك جوناثان،
موارد كبيرة لإصلاح نظام “الماجيري”، حيث يجري في الوقت الراهن بناء العديد من
المدارس والسكن الطلابي للحد من هذه الظاهرة، والسيطرة على ما تعتبره العديد من
اللجان الحكومية أساسا لتجنيد عناصر ينضمون إلى جماعة “بوكو حرام” المتشددة.
ويفتقر هؤلاء الأطفال إلى أي من درجات التعليم الملموس أو الوسائل الناجعة للبقاء
على قيد الحياة، ويعتقد أن أعدادهم تتراوح بين 7 و9 ملايين طفل ينتشرون عبر شمال
نيجيريا، وفقا للمجلس الوطني لرعاية المعوزين، وهو عدد أكبر من سكان بعض البلدان.
وفي تصريح لوكالة الأناضول، قال أحد الخبراء المحليين الذين يبحثون هذه الظاهرة،
ويدعى إيناكوكو إينروفاي “في معظم الأحيان، يغادر هؤلاء (الماجيري) منازلهم في سن
مبكرة للغاية، وبدون أي موارد من جراء الفقر، ويرسلون إلى الإسلاميات (المراكز
الدينية في الشمال) لتعلم القرآن الكريم”.
وأضاف أن الأطفال يعانون الكثير من المشاق، وغالبا ما يلجأون إلى التسول والعمل في
وظائف وضيعة من أجل كسب الرزق، بل إنهم يعانون الجوع، ويعيشون في ملاجئ فقيرة تنتشر
فيها الفئران، وبالكاد يرتدون ما يسترهم”.
وأوضح أنه “نتيجة لذلك، فإن هذه المراكز الإسلامية رديئة الإدارة، أصبحت ملاذًا
لتربية الأطفال الساخطين الذين يلجأون إلى العنف حال التعرض لأدنى استفزاز″.
وفقا لـ إيناكوكو، يصبح هؤلاء الأطفال “فريسة سهلة للسياسيين الطموحين والأشرار،
وغيرهم من أصحاب المؤامرات الخبيثة”.
وهو ما يوافق عليه غاربا شيهو، خبير العلاقات الإعلامية وأحد سكان شمال نيجيريا،
حيث قال لوكالة الأناضول “قبل أن يفسده الآباء الكسالى والمعلمون الجشعون،
والسياسيون الاستغلاليون، وأرباب العمل، كان نظام تعليم (الماجيري) بمثابة وسيلة
حقيقية لاستيعاب القرآن الكريم من جانب الشباب، ونهجا لتشرب نمط الحياة المتقشف
كوسيلة للانضباط الذاتي”.
وأضاف “هذه الأيام، الآباء الذين يواجهون مشقة في تنشئة أطفالهم، يرمون أبنائهم
الذكور في قلب هذا النظام في ظل إشراف ورعاية محدودة أو معدومة”.
وأوضح أن “هؤلاء الأطفال، الذين يعاملون كالأمتعة ، يميلون إلى الشعور أو التصرف
بطريقة تبين أنهم أقل شأنا من الناحية النفسية، ويفتقرون إلى الإحساس بقيمة الذات”.
ولكن يبقى السؤال كيف تحول هذا النظام- الذي جعل المنطقة في السابق منارة للتعليم،
تتباهى بكوكبة من كبار العلماء أمثال عثمان بن فودي (مجدد وعالم دين نيجيري)، أحمد
أبو بكر غومي (شيخ قضاة نيجيريا) إلى عبء مهدد بالإلغاء.
دييغو أوكينيودو، مستشار الاتصالات في مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات
والجريمة، قال في تصريح لوكالة الأناضول إن “نظام (الماجيري) النيجيري الذي كان في
الماضي جديرا بالثناء قد انهار، بالتزامن مع النظام الاجتماعي في البلاد”.
وربط هذا التدهور أيضا “بالموت الوشيك” لنظام الزكاة الإسلامي، الذي كان ذات يوم
دعامة لنظام “الماجيري” الذي اعتبره كذلك “تشويهها للنظام الاجتماعي الذي يشجع على
المنح الدراسية الدينية الإسلامية، ورمزًا على فشل المسلمين في التمسك بأحد أركان
الدين”.
وأوضح أنه “كان من المفترض أن يدرس الشباب على يد (المعلمين) الذين يعيشون على
أموال الزكاة التي يدفعها المسلمون”، لكن البلاد شهدت العديد من “التغييرات”
الأخيرة.
ولفت إلى أن “التغريب (زيادة تأثير الحياة الغربية) تسلل إلى المجتمع، والكثير من
المسلمين لا يدفعون الزكاة”، ما دفع المعلمين إلى بدء إعالة أنفسهم عن طريق
الاحتفاظ بالمزارع والمواشي، حيث ، حيث ساهمت طبيعة الشمال الخضراء في ذلك، ولكن
عندما حل الجفاف، وندرت المحاصيل، بدأ التسول من أجل الصدقات يصبح وسيلة للحياة”.
ورأى أن “انهيار النظام التقليدي لتمويل (الماجيري)، يمكن تشبيه بانهيار منظومة
القيم التقليدية، التي بشرت بأيديولوجية تشجع على القتل الوحشي.
وقال “في ضوء ذلك، لا أرى فرقا بين (الماجيري) المحرومين، والفكر المشوه الذي يتسم
بالعنف الذي يروج له تحت مسمى بوكو حرام”.
ورأى أن “هناك الكثير من الأشياء التي تظهر أن (بوكو حرام) ليست هي نفس المجموعة
التي تعمل أصلا في شمال شرق البلاد”.
وتابع “نحن نعلم أن العديد من المسلمين قتلوا في تفجيرات وقعت في ولايات: كانو،
ويوبي وبورنو، ولا أعتقد أن ترتكب، المسلمون لا يرتكبون مثل هذا القتل المتعمد
لمسلمين مثلهم”.
وفي المقابل، يقول كثير من العلماء في الشمال إن البريطانيين دمروا نظام “الماجيري”
في القرن التاسع عشر عن طريق تجريده من الأموال التي تم تخصيصها لإدارة أنظمة
التعليم على النمط الغربي أو البريطاني.
وفي حين تبذل الحكومة جهودا للقضاء على نظام “الماجيري”، يشكك الكثيرون في جدوى هذا
ويرجحون أن شيئا لن يتغير.
لكن يبدو حاكم ولاية كانو “رابيو كوانكواسو” عازم على إنهاء نظام “الماجيري”، حيث
قال المتحدث باسمه، هاليلو إبراهيم دانتي إن “أموال كثيرة خصصت لتسجيل الأطفال في
المدارس، مع ضمان أنهم يتلقون الرعاية الكافية”.
وأوضح “هذا هو النهج الذي يتبناه الحاكم، ولا سبيل إلى التراجع عنه، نحن نبعد
الأطفال عن الشوارع، وهناك بالفعل قانون قائم يحظر التسول بجميع أشكاله في
الولاية”.
لكن الناقد الاجتماعي توندي أجينيفيسن يعتقد أن القوانين التي تحظر نظام “الماجيري”
ليست هي الحل، حيث يعتقد أن “القوانين وحدها لن تقلل من تواجد هؤلاء الأطفال في
الشوارع″، موضحا أن “العوامل التي تسهل انتشار هذه الآفة هي: انتشار الفقر، وأمية
الآباء، وغياب البنية التحتية الاجتماعية الأساسية بشكل شامل”.
لكن في نهاية المطاف، يختلف الأمر بالنسبة إلى جعفر عبد السلام، أحد المراهقين من
ولاية بوتشي شمال شرق البلاد، حيث لا يزال يجوب شوارع كانو، حاملا وعاء في يده.
وفي حديث لوكالة الأناضول قال عبد السلام “أنا يتيم. لا أعرف من الدنيا سوى والدتي،
وهي أفقر من أن تعتني بي، حيث نشأت وأنا أراها تتسول لجمع الصدقات لإطعامي وأخوتي”.
وأوضح عبد السلام أنه وبعض زملائه جاءوا من ولاية بوتشي للدراسة والبحث عن مكان
وسبل أفضل للرزق في ثاني أكبر مدن نيجيريا، مضيفا: “نحن ندرس هنا، بينما نسعى أيضا
من أجل لقمة العيش”.
القدس العربي
Navigate through the articles | |
فضيحة سياسية وأخلاقية مهينة لمصر في صورة رئيسها السابق الذي يشكو من الجوع خلف الجدران | مؤامرة ‘تفليل’ السيسي |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|