على إثر الإطاحة بالإرادة السياسية للشعب
السوداني في العقد الأخير من القرن المنصرم، بتحالف بين المؤسسة الإسلاموية وطبقة
من بروليتاريا نفعية محدودة من المؤسسة العسكرية السودانية ‘الجيش’ المنتمية إلى
التيار ذاته، في محاولة واسعة لفرض إراداتهما الذاتية، التي جاءت على شكل شطحات أو
طموحات لمشروع حقل تجارب جديد، أو لاستثمار برأسمال مسروق من المقدرات الجماعية
للشعب السوداني، الذي لا يتم إلا عن طريق آليات الإخضاع والخضوع للامتثال، ومن ثم
على الجميع التقيد بفقه وأدب السلطان الجديد، إن كان تمثل في شطحة أو احتكار البلد
ولملمة مقدراته ليكون ريعا للاستثمار النفعي الذاتي للطبقة الجديدة. ومن ذاك ذلك
الوقت أراد النظام، الذي يفتقر لكل شروط والمؤهلات المتعارف عليها، أن يلعب دورا
ويصنع لنفسه مركزية بين دول الإقليم الأفريقية والعربية، تؤهله للقيام بمهام الدولة
الإقليمية المحورية، بدون النظر إلى افتقار هذه الدولة للمقومات التي من شأنها أن
تدفع وتوفر تلك الأرضية للقيام بدور كهذا، فاختار النظام لنفسه الدور التبشيري على
أساس زعم الرسالة الحضارية النهضوية التي نزلت فجأة على الأرض السودانية فتلقفها
وتبناها ولزاما عليه التبشير بها، لأن هناك حاجة ملحة لدول المحيط المجاورة للسودان
لمبادئها ومحتواها، خصوصا أنه استطاع أن يحكم بها السودان رغم كونه أثبت بما لا يدع
مجالا للشك أنه يحمل قيمة واحدة وهي قيمة المساواة في تعذيب ابناء الشعب السوداني
لاغير..
إلى ذلك، ومنذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا عمد النظام الى انتهاج سياسة اساسها التدخل
في شؤون الغير على المستوى الداخلي/ الوطني والإقليمي الدولي وبدرجات مختلفة،
والأدلة هنا كثيرة ومتوفرة، هذا عدا بيانات الشجب والإدانة التي أصدرها العديد من
الدول والمؤسسات الدولية بحجة التدخلات السافرة للنظام السوداني في شؤون دول، لدرجة
وصفته بالإرهاب الذي ما زال اسم النظام مدرجا فيه، ضمن اللائحة الأمريكية للإرهاب،
وتصر واشنطن على عدم رفعها بحجة أن الخطر ما زال قائما وأسبابه لم تنتف بعد. أما
ذراع هذه التدخلات السودانية فعادة ما توكل للأجهزة الأمنية السودانية التي تتولى
كل الملفات الحساسة والحرجة في العلاقات الخارجية والدولية للنظام، أكثر من الوزارة
المعنية ودبلوماسييها الذين تحولوا إلى كتبة في المراسلات العامة، حيث مهام ضابط
الأمن الذي يأتي تحت وظيفة ‘مستشار’ هو السفير الفعلي، تُخول له كل القرارات حتى إن
أراد عزل السفير وفق تقريره الذي يرفعه لجهات الاختصاص. ولا أعتقد أن هناك جهازا
عاملا في الخارجية السودانية غير دائرة الإعلام الخارجي الموكول إليها رسم برامج
إعلامية تقوم بتعبئة الشعب وتشكيل وعيه بالعداء ضد دول مجاورة يعتبرها النظام أنظمة
معادية، بل ملحدة وكافرة احيانا وتعمل على توظيف خيرات الأرض في ما لا فائدة ولا
طائل منه – ويرد هذا في إطار حقد طبقي على ما يبدو ضد حزام الخليج العربي الغني –
ليمتد هذا التدخل إلى يومنا هذا ولو بدرجة أقل، بعدما اتى المقص الدولي وقام بالقص
والتشذيب، بعد صدور بعض السلوكيات والمواقف الصادرة من الخرطوم التي اعتبرها
استفزازا وتجاوزا للحدود، لتتم المعاقبة الفورية كجزء من التهذيب للإدماج ضمن
الحظيرة الدولية تحت اسم الرقابة المستمرة وبشروط المقص الدولي، فدفعت ثمن عربونها
الانبطاحي النهائي بتقسيم الوطن إلى شمال وجنوب.
وما لم يتدارك السودانيون أمرهم فإن النظام سوف يبيعهم وما تبقى من أرضهم. نعود
ونقول إن بحث مسار تدخلات النظام السوداني في الشؤون الداخلية لدول المحيط الجغرافي
ليست محل مزاعم واتهامات مجانية بقدر ما هي حقائق مثبتة وموثقة من طرف الدول التي
كانت هدفا للتدخل، لاسيما في العقد الأول للسلطة وتأثرها حينها بنموذج ‘ولاية
الفقيه’ لتصدير الثورة السودانية القائمة عندئذ على فلسفتي التعذيب وبيوت الأشباح،
كأدوات يجب أن تسود للتبشير وفرض ما يعرف بالمشروع ‘الحضاري’ السوداني، آخر منتجات
العقل الإسلاموي السوداني وإبداعاته في الدول المجاورة، مستفيدة في هذا المنحي
ولذات الغرض من المدرسة الأمنية الإيرانية ‘الحرس الثوري’ والمدرسة الأمنية البعثية
العراقية وبنوع ما السورية، التي قامت بنقلها جميعا وتطبيقها على شكل نظرية أمنية
مزدوجة تمت تبيئتها سودانيا، لتشكل اليوم عماد البناء التنظيمي الأمني لنظام حكم
الخرطوم.
وضمن هذا السياق نستطيع أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض أشكال من هذه
التدخلات التي ترتقي في بعضها إلى جريمة الاعتداء أو إعلان الحرب، منها ما عرف
بعملية اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا،
إبان انعقاد مؤتمر القمة الأفريقية، واتهام السلطات المصرية للحكومة السودانية
بتدبير العملية الفاشلة التي تسربت وقائعها وحيثياتها بعد تفجر الصراع بين إسلاموي
السودان انفسهم، فريق غادر الحكم وسجنت قيادته وعناصره، والآخر بقي في السلطة وما
زال موجودا فيها، ليقوم الفريق الغاضب بكشف بعض المسؤولين عن تلك العملية علانية
وعلى الهواء حول ضلوع النائب الأول للرئيس السوداني ومساعده السابقين في العملية
التي تم إخفاء أدلتها عبر عملية هي الأخرى مثيرة، وعرفت في الأوساط السودانية
بتصفية ممثلي العملية لبعضهما بعضا، وفق تدبير مخطط من أجهزة عليا لدفن كل الأدلة.
إلى ذلك كان التدخل السوداني المباشر في الشأن التشادي عبر تدريب المعارضة التشادية
داخل الأراضي السودانية ومساعدتها عبر دعم وإسناد سوداني لتغيير نظام إدريس ديبي في
عمليتين فاشلتين شاهدهما العالم كله، كما صدرت اتهامات من ‘بانغي’ عاصمة أفريقيا
الوسطى تندد بالتدخل السوداني في دعم عناصر متمردة ضد الحكم في الدولة، وهي مجموعات
قبلية دينية إثنية. صحة هذه الاتهامات كانت واضحة للمراقبين بعد المجازر الأخيرة
التي عرفتها أفريقيا الوسطى بين أطراف الصراع، الشيء الذي دفع بتدخل فرنسي/دولي
لمنع انهيار الدولة وارتكاب مجازر، وهي مجازر لا تختلف كثيرا مع الفارق بين مجازر
الحكومة السودانية في إقليم دارفور ومجازر الصراع الإثني الديني في أفريقيا الوسطى،
نسرد هذا بدون الحديث عن التدخلات في شؤون دولة الجنوب الوليدة والحديثة النشأة،
والحديث عن تورط الخرطوم في دعم المنشق رياك مشار نائب رئيس دولة الجنوب السابق ضد
‘جوبا’ في أحداث دولة جنوب السودان الأخيرة. فضلا عن ذلك تجدر الإشارة إلى أن هذه
التدخلات لم تقتصر على الصعيد الميداني العسكري والمخابراتي، بل شملت الجانب
التعبوي الإعلامي، عبر حملات إعلامية موجهة ومنظمة ضد أنظمة بعض الدول، نذكر منها
البرنامج السياسي الشهير ‘الحديث السياسي’ الذي يقدمه العميد يونس محمود وتعد
موضوعاته دائرة إعلام الأمن السياسي الخارجي، الذي يشمل خطابا تعبويا يوجه إساءات
لشخصيات وقادة عرب، وكان أكثرهم عرضة البلاط السعودي، ومنذ ذلك الحين والقــيادة
السعودية رغم حالات التودد السودانية لا تثق في توجهات حكام السودان، والعلاقات لا
زالت متوترة. أما الغريب واللافت، في ظل هذه التدخلات، انه تم احتلال مساحات من
أراض سودانية في الشمال مدينة ‘حلايب’ من طرف المصريين، وما زالت واقعة في الاحتلال
وحولها الببلاوي رئيس الوزراء المستقيل إلى مدينة خلال الأيام الماضية، أيضا احتلت
اثيوبيا مناطق على الشريط الحدودي الفاصل بين السودان واثيوبيا، كل هذه الاحتلالات
والصمت الحكومي رهيب ومريب، عن أيلولة هذه المواقع للسيادة السودانية. وترجح مصادر
في هذا الصدد أن هذه الأراضي السودانية في الغالب تم بيعها بمقــــــابل لم يتم
تحديده بعد، هل دفع ‘نقدا’ أو مقابل رشى سياسية لانــــتزاع مواقف وتعهدات النظام
بحاجة إليها، على سبيل المثال ان تتعهد هذه الدول بعدم استضافتها للمعارضات
السودانية خصوصا المسلحة منها.. إلخ.
أما الجديد في روزنامة تدخلات النظام السوداني في شؤون دول الجوار، التي تعتبر
موضوعا جديرا بالاهتمام والدراسة، مقارنة بالنظم السياسية التي حكمت السودان
وعلاقاتها الخارجية التي حملت وقتئذ التوازن وحماية المصالح المشتركة وعدم التدخل
في شؤون الغير، في هذا الإطار وبعد الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي من طرف
التحالف الأطلسي/ الغربي بدون إستراتيجية واضحة من الغرب لمرحلة ما بعد حكم
القذافي، الشيء الذي أدخل الدولة الليبية في فوضى وصعب عملية الانتقال وشكل التعاطي
مع المتغيرات الجديدة جراء طبيعة بنية التركيبة الاجتماعية في ليبيا، التي ربما لا
يعلم عنها الغربيون الشيء الكثير، ويلحظ أن العلاقات الغربية في المرحلة القذافية
كانت أفضل في إطار لوبيات المصالح الغربية. ويرى كتاب عرب كثُر أن هناك مؤامرة على
ليبيا لإنتاج نموذج دولة فاشلة وبأيد غربية للسيطرة على القدرات الاقتصادية الهائلة
للشعب الليبي، وفي هذا المنح بعد إكتمال الإطاحة بنظام العقيد وبدون سابق إنذار خرج
الرئيس السوداني عبر خطاب جماهيري على الهواء مباشرة، ليقول للجماهير المحتشدة
والرأي العام العالمي بأنه ساهم وبقوة في الإطاحة بالقذافي، وقام بإرسال العتاد
والقوات لمساعدة القوى الداخلية المناهضة لنظام القذافي، وثبت في الأخير أن الغرض
منها اغتيال رئيس ومؤسس حركة العدل والمساواة السودانية خليل إبراهيم الموجود وقتها
في طرابلس، وفق خطط مشتركة بين أجهزة الأمن السودانية وبعض الجماعات الليبية
المتشددة، التي تحسب على أن لها علاقات مع فروع تنظيم القاعدة في المغرب العربي،
إلا أن العملية فشلت واستطاع خليل إبراهيم مغادرة ليبيا والوصول إلى السودان إلى أن
تم اغتياله في مؤامرة إقليمية بالأراضي السودانية. الان وفي ظل الاستمرار المتزايد
لهذا التدخل قالت جماعات ليبية متناحرة ومتنافسة في الجنوب الليبي بمدينة سبها، ان
الحكومة السودانية نقلت ميليشاتها عبر طائرات شحن عسكرية حطت في مطار الجفرة
العسكري الواقع جنوب ليبيا وتحت إمرة ضابط سوداني لمساعدة أحد أطراف الصراع ضد
الأطراف الأخرى، والأطراف المتحاربة فيها طرف يتبع الجماعات الليبية الإسلامية
وأخرى للحكومة الليبية والثالثة للقوى الوطنية الليبية التي تتبع عناصرها علي ما
يبدو الحرس القديم، الأمر الذي رفضه وندد به عدد من رجال القبائل الليبية، بدون أن
تنفي الدولة السودانية أو تؤكد.
واللافت في موقف الرئيس السوداني تجاه العقيد الليبي أن الأخير هو أول من رفض قرار
الجنائية الدولية الصادر ضد الرئيس السوداني، بل مارس نفوذه المعروف في الاتحاد
الأفريقي لتتبنى المنظمة الأفريقية هذا الموقف، وإلى يومنا هذا، في حين الجامعة
العربية لم تتخذ هذا الموقف غير التعاطف الصادر من هذه الدولة أو تلك، بجانب ذلك،
المؤكد أن العقيد القذافي لم يكن ينوي مطلقا إسقاط نظــــام عمر البشــــير وفي أي
مرحلة من المراحل، وكان باستطاعته، حسب دوائر أمنــــية سودانية، نشر ما يفوق
العشرة الاف سيارة دفع رباعي مجهزة في عرض الصحراء لثوار دارفور، هذا الموقف تكرر
مع الرئيس المصري الأسبق، وهو أول رئيس دولة يوفر الغطاء السياسي الدولي والعربي
لانقــــلاب البشير على الديمقراطية في الثلاثين من يونيو/حزيران 1989، وليبيا أيضا
هي أول دولة ضخت المال لحكومة الانقلاب بعدما كانت الخزينة شبه فارغة، فباعهما
البشير بسهولة، حقا أنه نظام لا يعرف للوفاء قيمة ولا للتعهد التزاما، كما لا يتوفر
على ثقة أحد، أي أحد، في الداخل والخارج! والواضح ان البشير ما زال يلاحق الكتاب
الأخضر’ ولو أدى ذلك إلى التورط في الجنوب الليبي مجددا.
القدس العربي
Navigate through the articles | |
إطلاق مناهج للدراسات الإسلامية في المدارس بكينيا | بين شؤون الدولة والرياضة! |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|