أقوى إشارة على أن الرئيس عبد
العزيز بوتفليقة المرشح لولاية رئاسية رابعة لا يملك برنامجا اجتماعيا وسياسيا، هي
وجود هذه الزمرة من المسؤولين السياسيين والحزبيين حوله، السابقين والحاليين، كلٌّ
يزايد على الآخر بأقوى ما استطاع.
هدف بوتفليقة ومن معه لم يكن البرنامج ومضمونه بقدر ما كان جمع أكبر عدد من
المسؤولين الحكوميين (أغلبهم فاشلون وبعضهم يتحملون نصيبا كبيرا من مسؤولية الحفرة
التي آلت إليها البلاد)، حول شخص واحد حتى يقال أن الدنيا كلها معه. وهي طريقة أيضا
لضمان تسخير الدولة برجالها وعتادها لخدمة مرشح يـُفترض أنه متساوٍ مع المرشحين
الآخرين.
يخطئ من يعتقد أن تجنُّد كل هؤلاء وراء بوتفليقة هو مجرد عملية استعراض قوة لترهيب
المنافسين الآخرين. حقيقة الأمر أن جمع هذا العدد من المسؤولين الحكوميين يعني ضمان
انحياز الإدارة، فهم على صلة مستمرة، بحكم مناصبهم ومسؤولياتهم الحالية والسابقة،
بالولاة والجهات الإدارية التي تدير الانتخابات في الميدان وتضمن النتائج كما
يريدها من في يده مصير البلاد.
هل يتخيل عاقل أن بوتفليقة كان سيختار رجلا لا علاقة له بالحكم والمسؤولية لإدارة
حملته الانتخابية، مهما كانت حنكته السياسية ومستواه الفكري والثقافي؟ لا، ذلك أن
المسألة تحتاج إلى أشياء أخرى أهم من الحنكة السياسية والمستوى الفكري والثقافي.
الغرابة الأخرى موجودة في التناقضات الصارخة الكامنة في هؤلاء المسؤولين. فهم خليط
ممن يطلق عليهم مجازا العلمانيين والمحافظين والتقدميين واليمينيين والمعربين
والمفرنسين والنقابيين وأرباب العمل والانتهازيين والمخلصين والمتعلمين والجهلة
والانتهازيين والتقاة والمتهربين من الضرائب. إنهم يعطون صورة رائعة لتركيبة نظام
الحكم وتناقضاته التي لم تمنع استمراريته.
لا يمكن أن تجتمع هذه المتناقضات حول ‘برنامج’ رجل واحد، إلا إذا كانت الانتهازية
والرغبة في الحفاظ على المصالح هما الدافع والقاسم المشترك.
وإذا عكسنا الفكرة أصبحت كالتالي: من ذا الذي يستطيع جمع كل هذا التناقض في برنامج
واحد، ثم يزعم أنه صادق ومخلص؟
وفي البحث عن أسباب ملاحقة فريق حملة بوتفليقة بالطوب والأحذية في أكثر من تجمع
انتخابي، يجب التوقف عند تركيبته الهجينة. سهل على الجزائري البسيط أن يستخلص أن
هذا الهجين يحمل الفشل والتناقض في صلبه، ولا يمكن أن يكون مخلصا وصادقا في ما يقول
ويعد.
لذا كان الجواب بالطوب والأحذية. ولهذا لم تخرج الحملة الانتخابية التي قادها وكلاء
بوتفليقة عن خطابات الإشادة بما تحقق على يد بوتفليقة و’أفضاله’ على الجزائريين.
كان أغلب الكلام عن الماضي من دون إشارات نحو المستقبل لأن لا أحد من هؤلاء يعرف
عنه شيئا.
لم يسمع الذين تابعوا الحملة الانتخابية من ‘الهجين’ أي كلام مفيد ومقنع غير عبارات
جاهزة مكررة بأكثر من أسلوب ولغة: بوتفليقة حقق لكم الاستقرار بعد أن كانت البلاد
تحترق. بوتفليقة ضحى من أجلكم. بوتفليقة يمثل الاستمرارية. الجزائر في خطر
وبوتفليقة هو الضامن لأمنها. بوتفليقة حارب الإستعمار وعمره 17 سنة.. إلخ.
القنوات التلفزيونية الموالية لبوتفليقة، وعندما لم تجد شيئا تبثه من الحاضر،
والتبس عليها المستقبل، راحت تحفر في الماضي فملأت ساعات من البث بخطابات ألقاها
بوتفليقة في 1999، وكان خلالها يستعرض قدراته الخطابية واللغوية أكثر منه يعرض
برامج سياسة وخطط دولة.
الكلام القليل من حملة بوتفليقة عن المستقبل يفيض تناقضات تفرضها التركيبة البشرية
لهذا الهجين، ووعودا براقة لا صلة لها بالواقع. مثلا: عبد العزيز بلخادم يقول
‘الولاية الرابعة لبوتفليقة ستكون بمثابة فترة انتقالية لتسليم المشعل للشباب’،
فيرد أحمد أويحيى بأن ‘لا مكان للفترات الانتقالية لأن الجزائر جربتها في السابق’.
لا أحد يجزم مَن مِن الاثنين على صواب ومَن على خطأ. ولا يهم لأن لا أحد يتحمل
مسؤولية كلامه ولا أحد يسائل أحداً.
وهنا أيضا لا يهم الأمر كثيرا، لأن فترة حكم بوتفليقة الطويلة كرّست ثقافة الثرثرة
والكلام غير المسؤول. أي مسؤول حكومي يستطيع أن يقول ما يخطر على باله لحظتها، ويعد
بما يشاء، ثم ينصرف وهو يعرف أنه يدلس على الناس وألاَّ احد سيحاسبه يوما.
نحن الآن أمام سباقات من المزايدة على الرئيس الذي يبدو أن يـطرب عندما يسمع عبارات
مثل ‘هذه بفضل توجيهات فخامة رئيس الجمهورية’ أو ‘هذا جزء من برنامج فخامة رئيس
الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة’.
لن ينسى الجزائريون بسهولة وزيرا اسمه جمال ولد عباس.. لا يلفظ جملة مفيدة من دون
أن ينسبها لـ’فخامة رئيس الجمهورية’، ومن كثرة وعوده المتكررة، سُميَّ: بابا نويل.
لكن عندما غادر وزارة الصحة التي أدارها عدة سنوات تركها في وضع كارثي لا مثيل له.
لم يسأله أو يحاسبه أحد، بل لعله الآن يشتكي في مجالسه الخاصة من أنه مظلوم
والجزائر لم تعطه فرصته.
ما لا خلاف عليه أن بوتفليقة، وبسبب صحته العليلة، لا يجتمع إلا بعدد محدود جدا
ومناسبات قليلة جدا مع الذين يديرون حملته الانتخابية. وليس واردا أنه يناقش معهم
تفاصيل برنامجه وحملته الانتخابيين. كما أنه ليس وارداً أنه يهتم بأدق ما يقولون في
المهرجانات الانتخابية وما يطلقون من وعود من المفروض أنها تلزمه بعد إعلان فوزه
بالفترة الرئاسية المقبلة.
لماذا ذلك، وكيف يقبل رئيس أن يورِّطه ثرثارون في وعود ما كان هو ذاته سيطلقها لو
أدار حملته الانتخابية بنفسه؟
ببساطة، لأنها ثقافة الوعود وزمن الكلام المرسل. الواعد والموعود والموعود باسمه
غرقى في هذه الثقافة. لا هذا يسأل لماذا وعدتم باسمي. ولا ذلك يسأل لماذا وعدتم
وأخلفتم. ولا الآخر يستحي من إطلاق وعود هو أول من يعرف أن عمرها ينتهي لحظة
إطلاقها.
عموما، الذي أخفق في 15 سنة (كانت كافية لبناء ألمانيا من العدم بعد الحرب العالمية
الثانية) لن يحقق شيئا في غيرها مهما طالت أو قصرت الفترة، كثرت الوعود أم قلّتْ.
القدس العربي
Navigate through the articles | |
مستقبل الجزائر في الميزان | الخروج من مصر… نسخة القرن الواحد والعشرين |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|