يستذكر الليبيون عادة مقولة
للمؤرخ الإغريقي هيرودوت، مفادها أن من ليبيا يأتي دوماً شيء جديد، ولعلّ وجود
عسكريّ متقاعد قادر على تحريك كتائب بأسرها لاحتلال مدينة كبيرة والأمر بغارات جوية
عليها لهو أمر جديد، لا بمقاييس ليبيا وحسب بل بمقاييس العالم أيضا.
استفاق الشعب الليبي بعد الثورة على انفراط الدولة ‘الجماهيرية’ العتيدة وانحلال
كتائب جيشها مع هروب أبناء القذافي ومساعديه الأمنيين وغياب أجهزة تنفيذية وطنيّة
عامّة قادرة على ضبط الأمن وخلق المناخ اللازم لقيام مؤسسات شرعية منتخبة، وهو ما
ترك الحبل على غاربه للتنظيمات المسلّحة التي قاتلت النظام لتفرض سلطاتها على مدن
وبلدات ومناطق، وبعد أن جمعها النضال ضد القذافي فرّقتها أهواء السياسة
والأيديولوجيا والمصالح.
رفع عدد كبير من هذه الميليشيات راية الإسلام، إما كردّ فعل على النظرية الخضراء
الكاريكاتورية التي كان القذافي يستخدمها غطاء لاستبداده واحتكاره للثروة العامة
ووحشيته، أو كغطاء للتلفّع به لإضفاء مشروعيّة مقدّسة على سلطتها الآنية والتي يجب
أن تسلّم الى سلطة وطنية أعلى، وهو أمر، في النهاية، طبيعيّ بعد انهيار أي دولة
استبدادية تغلق كل الخيارات السياسية أمام شعوبها، فلا يبقى للناس غير اللجوء الى
الله ومظاهر التديّن التقليدية.
الفراغ الأمني الذي شهدته ليبيا بعد ذلك حال طبيعيّة أيضاً في بلاد واسعة جغرافياً
وتوازناتها الداخلية غير جاهزة للالتحام في مشروع سياسيّ موحد بعد عقود من إفراغ
البلاد من السياسة، وهو ما أدى الى انجراف ليبيا، كأغلب البلدان العربية، نحو
استقطابين كبيرين، بين كتلة ليبرالية، وكتلة اسلامية، وكلتاهما قويّتان في تمثيلهما
السياسي ولكنهما ضعيفتان في تمثيلهما العسكريّ، مما جعلهما خاضعتين لابتزاز
الميليشيات التي تسيطر على الأرض، من جهة، ولنفوذ دول إقليمية وأجنبية راغبة في لعب
دور قويّ في بلد ضعيف.
هجوم خليفة حفتر العسكري الأخير أسفر، حسب آخر حصيلة، عن مقتل 75 قتيلا و141
جريحاً، وجاء بعد إعلانه في شهر شباط/فبراير الماضي عن عدم شرعيّة الدولة الليبية،
بجهازيها التنفيذي والتشريعي، وقراره المفاجئ بمحاربتها وحده أمر يبعث على العجب
حقاً.
واذا كان كلام اللواء المتقاعد حفتر يلاقي هوى عند بعض شرائح الشعب الليبي ولدى
المؤسستين العسكرية والأمنية الناشئتين، بعد تعرّض ضباط وأفراد منهما لحملة تصفيات
واغتيالات مشبوهة، لا يستطيع أحد أن يجزم بهويّة مرتكبيها، فإن كلامه عن شرعيّته
الشعبية لا يختلف في الحقيقة عن كلام قادة الميليشيات، بما يجعله قابلاً للصرف
باعتباره صراعاً محضاً على السلطة لا أكثر ولا أقل، وهو يعني أن وضع الآمال الشعبية
عليه استثمار في رمال الصحراء، ناهيك عن أن كلفته، باهظة ويمكن أن تؤدي الى حرب
أهلية طاحنة.
وراء اليافطة العالمية والعربية حول ‘مكافحة الإرهاب’ التي يحاول حفتر إيجاد دور
تحتها، أجندات مختلفة ومتصارعة أحياناً، فهناك من يعملون لتكريس الاستبداد العربي
ودفن الحراك الذي خلقته الثورات العربية، وهناك من يرغبون في تمويه صراعهم السياسي
مع الإخوان المسلمين بتصريفه عنوة في باب مكافحة الإرهاب، مروراً بالأجندات
التوسعية والطائفية لبعض بلدان الإقليم، ووصولاً الى الأجندات العنصرية الكارهة
للإسلام عموماً من استراليا وبورما والصين وروسيا مروراً بأوروبا ووصولاً الى
أمريكا.
إعلان اللواء المتقاعد حفتر استهداف قوى التطرّف و’التكفيريين’ كما يقول، كان يمكن
أن يجد صدى لدى الليبيين، لكنه بقراره (وهو لواء متقاعد ليس إلا) حلّ المؤتمر
الوطني الليبي والجيش الليبي، يساهم بشدة في إضعاف مشروع تأسيس الدولة الليبية
الحديثة لأنه يستهدف مؤسستيها التشريعية والتنفيذية مستنداً في ذلك على قوى إقليمية
طامعة في ليبيا، وهو أمر يضع علامة استفهام كبيرة حول دوره، ويحوّله غازيا لبلده لا
محررا له.
القدس العربي
Navigate through the articles | |
قمع في الشمال وانسداد في الجنوب | دعم الشباب لبوكو حرام يعكس ماضي الحركة المروع في تعاملها مع الأولاد |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|